تعديل

الجمعة، 9 يونيو 2017

من فقه القرآن : لحوم العلماء مسمومة وغير مسمومة

من فقه القرآن
 لحوم العلماء مسمومة وغير مسمومة
 الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي
 إمام وخطيب المسجد الأقصى المبارك
 الأمين العام لهيئة العلماء والدعاة ببيت المقدس
  www.algantan.com
 

 قال الله تعالى :"مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ" (79)

 فقه الآية الكريمة وفوائدها في المسائل الآتية:

 المسألة الأولى : قوله تعالى " ما كان لبشر ..." معناه: أن الله تعالى لا يصطفي من هو كاذب ليكون نبيا ، ولو كذب على الله لسلبه الله عزّ وجلّ النبوة وعلاماتها الدالة عليها المؤيدة والمظهرة لها،فالنبي الذي ينزل الله عليه الكتاب ، ويفقهه في الدين ويعلمه أسرار الشريعة لا يقول للناس اعبدوني من دون الله تعالى بل يطلب منهم عبادة الله وحده لا شريك له ، فإفراد الله بالعبودية هو التوحيد المبعوث به الرسل والأنبياء ، وضده الشرك الذي ينافي الإخلاص والذي بعث الأنبياء والرسل لقمعه ومحوه وإزالته...


المسألة الثانية:  وبناء على ما سبق فإن العلماء الربانيين الذين  حمّلوا أمانة الدعوة إلى دين الله عزّ وجلّ لا ينبغي لهم عدة أمور أهمها : أولا : أن لا يعرفوا بالكذب بين الناس فهذا خلق ذميم لا يليق بأي إنسان فكيف يتصف به عالم من علماء الشريعة ، والذي من خلاله يريد الحصول على أغراض دنيوية هي في النهاية زائلة والحساب عليها باق عند الله تعالى يوم القيامة ، ثانيا: على علماء الشريعة وهم يجمعون الأتباع حولهم لنصرة الدين أن لا يجعلوا هؤلاء الأتباع يغلون بهم ، فلا عالم إلا هم ، ولا صالح إلا غيرهم ، فهذه مغالاة تشبه مغالاة أهل الكتاب والتي جعلتهم مذمومين في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وروى مسلم وغيره حديثا قدسيا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيري، تركته وشركه»وفي رواية: «فأنا منه بريء، هو للذي عمله» .وروى أحمد عنه صلّى الله عليه وسلّم: «إذا جمع الله الناس يوم القيامة نادى مناد: من أشرك في عمل عمله لله أحدا، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك»، فإذا سبّح أتباع هذا العالم بحمده ورفعوا منزلته في غير حق ، فظن الدهماء وعامة الناس أنه القدوة ولا غيره قدوة ، فتلك مصيبة لأنها تغرير بالناس أن يقتدوا بمن ليس قدوة ...


المسألة الثالثة: قوله تعالى :" ولكن كونوا ربانيين "،جاء في تفسير القرطبي:" الرباني مَنْسُوبٌ إِلَى الرَّبِّ. وَالرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ، وَكَأَنَّهُ يَقْتَدِي بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ فِي تَيْسِيرِ  الْأُمُورِ، رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. والرَّبَّانِيُّونَ أَرْبَابُ الْعِلْمِ، وَاحِدُهُمْ رَبَّانُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: رَبَّهُ يَرُبُّهُ فَهُوَ رَبَّانُ إِذَا دَبَّرَهُ وَأَصْلَحَهُ، فَمَعْنَاهُ عَلَى هَذَا يُدَبِّرُونَ أُمُورَ النَّاسِ وَيُصْلِحُونَهَا. فَمَعْنَى الرَّبَّانِيِّ الْعَالِمُ بِدِينِ الرَّبِّ الَّذِي يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ فَلَيْسَ بِعَالِمٍ. وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ: الرَّبَّانِيُّ هُوَ الْعَالِمُ الْحَكِيمُ. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ" وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ" قَالَ: حُكَمَاءُ عُلَمَاءُ. ابْنُ جُبَيْرٍ: حُكَمَاءُ أَتْقِيَاءُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدَعَ حِفْظَ الْقُرْآنِ جَهْدَهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:" وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرَّبَّانِيُّونَ فَوْقَ الْأَحْبَارِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ، لِأَنَّ الْأَحْبَارَ هُمُ الْعُلَمَاءُ. وَالرَّبَّانِيُّ الَّذِي يَجْمَعُ إِلَى الْعِلْمِ الْبَصَرَ بِالسِّيَاسَةِ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: رَبَّ أَمْرَ النَّاسِ يَرُبُّهُ إِذَا أَصْلَحَهُ وَقَامَ بِهِ، فَهُوَ رَابٌّ وَرَبَّانِيٌّ عَلَى التَّكْثِيرِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: سَمِعْتُ عَالِمًا يَقُولُ: الرَّبَّانِيُّ الْعَالِمُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، الْعَارِفُ بِأَنْبَاءِ الْأُمَّةِ وَمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ. وَقَالَ محمد بن الحنفية يوم مات أبن عَبَّاسٍ: الْيَوْمَ مَاتَ رَبَّانِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ. " انتهى .



المسألة الرابعة: ويستفاد من المعاني السابقة للرباني فوائد أهمها: أولا: أن العالم المسلم ينبغي أن يكون عالما عاملا أي قدوة في سلوكه في أقواله وفي أفعاله ، وهذه الصفة عزيزة في علماء الأمة في هذا الزمان ،فالقدوة مفقودة ولو كانت موجودة لتغير خال المسلمين لأن التربية بالقدوة أهم وأنجع الأساليب التبوية ، وقد امتدح الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة فقال :" لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا" ، ثانيا :العالم المسلم يعرف الحلال والحرام ، وعليه أن  يجتنب الحرام ولا يقربه قبل أن ينهى عنه الناس ، ثالثا: العالم المسلم ينبغي أن يكون عالما  عراف خبيرا بأحوال المسلمين في منطقته وفي كل مكان من العالم وأن يهتم بهذه الأحوال وينصرها ، رابعا: العالم المسلم لا يحفظ المتون فقط ولا يكون ذلق اللسان وقلبه فارغ من خشية الله تعالى وجوارحه مبسوطة في معصيته ،بل يكون ربانيا فالصغيرة منه كبيرة ، والإصرار على الصغائر منه لا أقول كبيرة بل أقول جريمة ، والكبيرة منه تخرجه من قائمة العلماء فأي علم في الرأس ولا واقع له لا قيمة له وشنار على صاحبه ، خامسا: حفظ القرآن عن ظهر قلب  لا تجعل العالم عالما حتى يعمل به ،قال الله تعالى :" الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته" أي : يتبعونه حق اتباعه"، فلا خير في رأس يحفظ كتاب الله وقلب فارغ من التدبر والعمل بأحكامه،سادسا: ينبغي للعالم المسلم أن يكون حكيما ومن الحكمة أن يسع الناس جميعا ، وليس من أخلاق العالم الحقد والأنانية وحب الذات  وحب الظهور والدسائس فكلها منافية للحكمة....


المسألة الخامسة : وبناء على ما سبق فإننا نسمع من بعض العلماء قولهم "لحوم العلماء مسمومة " وهي كلمة حق يراد بها باطل ، فليس لحم كل عالم مسموم ،بل من العلماء من ينبغي الوقوف له والتشهير بضلاله وغيّه إذا كان كذلك ، لأن هذا العلم دين  ودين الله ينبغي الدفاع عنه والذوذ عنه ممن يعتدي عليه أيا كان ، ولفهم هذه الجملة أذكرها كاملة وهي لعلي بن الحسن بن عساكر  قال :" "واعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء رحمة الله عليهم مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة؛ لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم"، فإذا كان العالم بريء مما ينسب له أو يتهم به فهذا هو المقصود بلحوم العلماء مسمومة ، فهل يسكت على عالم -مثلا- يفتري على صحيح البخاري ويطعن به ؟ وهل نسكت على عالم يضع الصيام عن بعض فئات المسلمين ؟ وهل نسكت على عالم يقف مع طاغية يستبيح دماء وأعراض المسلمين؟ وهل نسكت مع عالم يعتبر مؤسسة من المؤسسات وقفا عليه وعلى أبيه ؟ وهل نسكت على عالم يأكل حقوق الناس ويعتدي عليها؟ وهل نسكت على عالم ديدنه الكذب والزور؟ وهل نسكت على عالم جبان لا يصدق في وعد ، ولا يجرؤ على اتخاذ قرار ينصف فيه ؟وهل نسكت على عالم ليس لهم من صفات العلماء إلا لبسهم ؟ وهل ؟ وهل؟


المسألة السادسة : ولكل ما ذكرته فإن السمّ القاتل للمسلمين هو أن يسكتوا على علماء الأمة غير الربانيين لأن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر  وواجب نصرة الدين  يتطلب منهم أن يقفوا لهؤلاء الذين يسممون واقع المسلمين بالتخاذل والجبن  وحب الدنيا والأنانية وكراهية الموت ،فهؤلاء لحومهم مسمومة بالضلال والفتنة ينبغي التحذير منها كي لا تقتل ما تبقى من أمل في نصرة الدين وتغير الواقع المزري الذي يعيشه المسلمون ويحيونه في الدنيا كلها ....
 والحمد لله رب العالمين








0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More