تعديل

السبت، 16 سبتمبر 2017

من فقه القرآن : الهجرة ومراتب الايمان

من فقه القرآن
" الهجرة ومراتب الايمان"
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي
إمام وخطيب المسجد ألأقصى
الأمين العام لهيئة العلماء والدعاة ببيت المقدس


 
 قال الله تعالى ( إنّ الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون  رحمة الله ، والله غفور رحيم ) سورة البقرة :218
      فقه الآية الكريمة وفوائدها في المسائل الآتية :
المسألة الأولى : الآية الكريمة جمعت بين أعلى مراتب الإسلام ، وهي : الأيمان ،والجهاد ، والهجرة .
المسألة الثانية : التلازم موجود بين هذه المراتب الثلاثة ، فلا هجرة من غير إيمان ، ولا تتحقق الهجرة إلاّ بالجهاد ، ومن لم يكن مؤمنا ، فلا عبرة بجهاده وهجرته ، كما قال عزّ وجلّ ( وقدمنا إلى ما عملوا فجعلناه هباء منثورا ) .
المسألة الثالثة : والجهاد أربع مراتب ، وهي :
الأولى :  جهاد النفس ، والنفس تحتاج إلى جهاد طويل ودائم ، فعلى عاتقها يقوم بنيان أنواع الجهاد الأخرى الباقية ، قال الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) . والنفوس ثلاثة ، واحدة ناجية وهي النفس المطمئنة ، وهي نفس المسلم الصالح التقي، قال الله تعالى ( يا أيتها النفس المطمئنة   ، ارجعي إلى ربك راضية مرضية ، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي )، والنفس الثانية هالكة ، وهي النفس  الأمارة بالسوء ، وهي نفس الكافر ، المتبع للهوى والشهوات (وما أبرىْ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء )، والنفس الثالثة  النفس اللوامة ، وهي نفس المسلم الذي يذنب ويستغفر ويتوب ، فهو دائم اللوم لنفسه على معاصيها وذنوبها ( فلا أقسم بالنفس اللوامة ). والنفس الأمارة بالسوء والنفس اللوامة مطالبتان بالتشمير عن ساق التوبة والعمل الصالح بالهجرة من التقصير في طاعة الله تعالى لتنجوان ،  وقد قال صلى الله عليه وسلم ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من نهى الله ورسوله عنه )
الثانية : جهاد الشيطان  ، والشيطان عدو الإنسان منذ أهبط على الأرض ، والواجب على العاقل أن يهجر عدوه الذي يتربص به الموت والهلاك  ، وهذا لا يتأتى إلا بمجاهدة الإنسان الأهواء والشهوات ، فهي أكبر !جنود الشيطان ، وبهما  يجول ويصول  ، وقد أمرنا الله تعالى قائلا ( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ) ، وما أجهل الإنسان حين يتخذ من عدوه صديقا وهو يعلم عداوته له ، وتربصه به   !.
الثالثة : جهاد الكفّا ر ، وهذا النوع من الجهاد ، لا يستطيع أن يقوم  به  إلا من جاهد نفسه ، وهاجر  بها  إلى الله تعالى بالطاعات ، واجتناب المعاصي ،ومن عجز عن مجاهدة النفس والشيطان كان لمجاهدة عدوه أعجز ، ولذلك قدم الإيمان على الهجرة والجهاد ، لأن الإيمان لا  يكمل إلا بالعمل الصالح ، والعمل الصالح هو أداء الفرائض ، واجتناب المحرمات ، ومن قام بهما  ، حقق الهجرة والجهاد جميعا
الرابعة: جهاد أرباب البدع والضلالات  ، وأرباب الضلالات والبدع كثيرون في مجمعاتنا ، ولا يستقيم إيمان المسلم حتى يجاهدهم ، فإن عجز قام بهجرهم  حتى يتوبوا .
المسألة الرابعة : وكل مسلم حتى يحقق مرتبتي الإيمان والجهاد ، يجب عليه أن يهاجر إلى الله تعالى ، وهذا لا يكون إلاّ  بجهاد النفس والشيطان وأرباب البدع والضلالات ، الهجرة الموافقة للحق ، والجهاد القائم لنصرة الدين ، وللهجرة والجهاد أحكامهما التي يجب على المسلم معرفتها قبل أن يقوم بهذين الواجبين .
المسألة الخامسة :  والهجرة بهذا المفهوم أنواع منها :
أولا : الهجرة الفردية : وهي أن يقوم كل مسلم بجهاد نفسه ، وشيطانه ، ومن حوله من أهل الضلال ، وهذه واجبة على كل إنسان ،  لأنه لا  نجاة له إلا بها ، ولأنه مأمور بها .
ثانيا : الهجرة الجماعية : وهي أن يقوم المسلمون جميعا بالهجرة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أي أن تحدث الأمّة في واقعها توبة جماعية ، استجابة لأمر الله تعالى ( وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ).
المسألة السادسة : والهجرة الجماعية  ، أعني بها التوبة الجماعية للأمّة المسلمة ، وهي واجبة عليها ، وبخاصة في هذا العصر ، لأنها تعيش في كبائر المنكرات ، وعلى  رأسها ترك التحاكم إلى الإسلام ، واحتكامها إلى المناهج الوضعية ، فأول توبة عليها هي أن تهاجر إلى القرآن الكريم ،وسنّة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتعيدهما إلى منصة الحكم ، وإلا ذهبت ثوراتها سدى ، واستفاد منها الكافرون .
المسألة السابعة : والهجرة الجماعية  على مستويات ، وهي :
 أولا : مستوى الأسرة ، وهذه الهجرة يجب أن يقوم   بها الأب مع زوجته ، لإقامة بنيان الأسرة  على الإيمان بمفهومه الشامل الذي بينت بعضه سابقا ، فالأب قوام ، ومقتضى القوامة يجعله مكلفا ومسئولا عن أسرته .
ثانيا : مستوى التجمعات السكانية للمسلمين ( الحارات والأحياء )، فلا بد أن يقوم أولو النهى والدين منهم بدعوة أهل الحيّ جميعا إلى الهجرة إلى الله تعالى بالإيمان والطاعة والصلاح .
ثالثا : مستوى الأمة كلها : وهذه الهجرة  سبب في سعادة المسلمين وسائر الأمم في الأرض ، وما شقاء البشرية اليوم إلا لترك الأمة المسلمة   هذا الواجب ، فالله جعلنا في الأرض لنعبد الناس لربهم ، وكيف نعبدهم لربهم ونحن شاردون عن هذه العبودية ؟ وما جعلنا الله تعالى أمة وسطا ، إلا لأننا نؤمن به ، ونهاجر إليه ، ونجاهد في سبيله  جميعا كأمة ، وليس أفرادا أو جماعات .
المسألة الثامنة : قوله تعالى ( يرجون رحمة الله) في بداية الآية الكريمة ، فيه إشارة إلى حسن خاتمة من هاجر وجاهد بعد الإيمان  ، لأن الإنسان المسلم لا يعرف بماذا يختم له ، فمن أراد حسن الخاتمة فعليه بهذه الثلاثة المنصوص عليها في الآية الكريمة ، وهذا أفهمه من رجاء رحمة الله لمن آمن وهاجر وجاهد ، فالله لا يذكر الرجاء برحمته إلا إذا كان سيعطيها عبده  ، وهو سبحانه لا يخلف وعده ( ومن أصدق من الله قيلا ) .
المسألة التاسعة : قوله تعالى في نهاية الآية ( والله غفور رحيم ) دال على العاقبة الحسنة للمسلمين إن هم هاجروا إلى ربهم ، وجاهدوا في سبيله ، الجهاد بأنواعه الأربعة السابقة ، وهذه العاقبة حسنة في الدنيا ، وحسنة في الآخرة .
المسألة العاشرة : وكم أن هجرة النفوس واجبة إلى ربها بالمعاني التي ذكرتها ، فهي واجبة بانتقالها من أرض إلى أرض ،نصرة للإسلام ، ونصرة للمسلمين ،وهذه  الهجرة لها ضوابطها الشرعية التي يجب وعيها وفقهها قبل العمل بها ، حتى لا يهجر مسلم أرض المسلمين لفهم خطأ ، ظنّه صوابا . 
وعلى المسلم في كل أحواله ، أن يعيش مهاجرا إلى ربه ، بإدامة الإيمان ، والارتقاء بالنفس إلى مرتبة الإحسان ، ثم إلى مرتبة اليقين .
 
     وأسال الله تعالى لي ولكم حسن الخاتمة ، ودوام الهجرة إلى ربنا العظيم بالطاعات والأعمال الصالحات 




من فقه القرآن : واجب المسلم بعد أداء المناسك


من فقه القرآن
واجب المسلم بعد أداء المناسك
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي
إمام وخطيب المسجد الأقصى المبارك
الأمين العام لهيئة العلماء والدعاة ببيت المقدس
www.algantan.com
 
قال الله تعالى : ( فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ، فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق . ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ألئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب ) سورة البقرة 200ـ 202
فقه الآيات الكريمات وفوائدها في المسائل الآتية :
المسألة الأولى : قوله تعالى : ( قضيتم ) أي أديتم وفرغتم من مناسك الحج . وهي مأخوذة من قضى : إذا أدى الشيء وفرغ منه ، ومنه قوله تعالى : ( فإذا قضيتم الصلاة ) : أي إذا أديتم الصلاة .
المسألة الثانية : ويعبر بالقضاء عما فعل المسلم من العبادات خارج وقتها المحدود لها ، كمن ينشغل عن الصلاة ، أو يتهاون بها ، ثم يتوب إلى الله ويقوم بقضاء ما فاته ، وكذلك كما في ترك الصيام وغيره من العبادات .
والواجب على المسلم أداء الصلوات وسائر العبادات في أوقاتها وعلى الوجه المشروع الذي شرعه الله تعالى ، وهذا يفهم من قوله ( قضيتم ) في الآية ، أي أديتم مناسك الحج في أوقاتها ، وهو أمر جلي وواضح في الدين ، دلت عليه آيات شريفة وأحاديث نبوية عديدة ..
المسألة الثالثة : قوله تعالى : ( مناسككم ) شعائر الحج ومنها الذبائح وذبح الهدي .
المسألة الرابعة : قوله تعالى ( فاذكروا الله ) ، في هذا الأمر الرباني للحجاج ، دليل على وجوب استقامة الحاج بعد أدائه فريضة الحج على طاعة الله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه . والمعنى : إذا فعلتم مناسك الحج وانتهيتم من أدائها ، فاذكروا الله بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم على نعمه وآلائه .
المسألة الخامسة : وهذه الآية دعوة للحاج إلى أن يجعل حجه مبرورا ، وذلك بأن يرجع بعد أدائه فريضة الحج أفضل مما كان عليه قبل ذلك ، ايمانا وطاعة لربه ، واجتنابا لمعاصيه .
المسألة السادسة : والحاج بعد  أدائه فريضة الحج ، والمسلم غير الحاج أيضا ، يجب على كل واحد منهم ، ذكرا كان أم أنثى ، أن يذكر الله كذكر الطفل الصغير أمه وأباه : أمه أبّه .. وهذا قول ابن عباس وعطاء والضحاك والربيع في معنى قوله تعالى ( فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا )

المسألة السابعة : وذكر الطفل أباه وأمه يدل على :
أولا : ضعفه الشديد ، وحاجته الشديدة إليهما لأنه لا يستطيع القيام بشؤون نفسه بدونهما .
ثانيا : التصاقه الدائم بهما ، وارتباط حياته بحياتهما .
ثالثا : حبه المطلق لأبويه ، فلا شيء أحب إلى الطفل منهما .
وإذا عرفنا هذا كله ، وجب على المسلم أن يكون مع ربه عز وجل الذي خلقه على هذه الحال ، من الضعف الشديد ، والحاجة إليه سبحانه ، وتعلقه بالله تعالى بدوام الطاعة له ، وحبه المطلق له عز وجل ..
المسألة الثامنة : وقد كان من عادة العرب إذا وقفوا عند رمي الجمرة ، التفاخر بآبائهم وما لهم من مآثر ، فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بالتزام ذكر الله أكثر من التزامهم ذكر آبائهم في الجاهلية
المسألة التاسعة : وللمفسرين أقوال أخرى في تأويل قوله عز وجل ( فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا) وهذه الأقوال هي :
أولا : اذكروا الله وعظموه وذبّوا عن حرمه وادفعوا من أداء الشرك في دينه ومشاعره ، كما تذكرون آباءكم بالخير إذا غضّى أحد منهم ، وتحمون جوانبهم وتذبّون عنهم  وعلى هذا المعنى ، فالمسلم مطالب دائما بما يلي :
  1. محاربة الشرك ومظاهره
  2. حماية شعائر الله وحرماته ، بأدائها ، وعدم الاعتداء عليها ، والإنكار على من لم يعظمها أو انتهك حدودها .
  3. تعظيم الله تعالى بالخوف منه في كل قول وعمل .
  4. الاستحياء من الله تعالى على كل حال فالتعظيم استحياء العبد أن يفعل شيئا لا يرضاه الله من العبد وقد أرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تعظيم الله تعالى بصورة عملية ، وهي أننا كما نستحي من رجل كبير صالح في العشيرة أن نفعل أمامه شيئا يغضبه ولا يرضاه ، فالله أولى أن نعظمه ـ ولله تعالى المثل الأعلى ـ
  5. ذكر الله تعالى دائما ، وذكر الله لا يقتصر على الشفاه بتحريكها بالتسبيح والتحميد والاستغفار والحوقلة ، بل يشمل الذكر استخدام كل عضو رزقك الله كاليد والرجل والعين والأذن والبطن والفرج ، في طاعة الله ، فلا يكون منه إلا الخير والاستقامة .
    ثانيا : وأن ذكر الله يعني أن نغضب لله تعالى إذا عصي أشد من غضبنا لأبوينا إذا شتما ..
    والمسلمون اليوم يعيشون نقيضى هذه الحالة ، فإذا شتم أباه أو أمه أمامه ثار وغضب وهدد ووعد وأرغى وأزبد ، ولكن إذا شتم الله أو الدين أو الرسول أمامه كأن أمرا لا يعنيه ..
    وهذه من ضعف الايمان ، ومخالف لما أمر الله به في هذه الآية الكريمة .
    المسألة العاشرة : قوله تعالى ( فمن الناس من يقول آتنا في الدنيا .. والله سريع الحساب ) بيان لأصناف الناس ، فالمسلم يسأل الله من خير الدنيا وخير الآخرة . وأما الكافر أو الرجل الطالح فلا يسأل إلا خير الدنيا ويغفل عن خير الآخرة وهو النعيم المقيم في الجنة ، والعمل لهذا الخير في الدنيا ..
    وللمؤمن ثواب الحج أو ثواب الدعاء وللكافر عقاب شركه لحصر همه في الدنيا ( أولئك لهم نصيب مما كسبوا )..


من فقه القرآن : وقفات مع فريضة الحج


من فقه القرآن
 وقفات مع فريضة الحج
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي
إمام وخطيب المسجد الأقصى المبارك
الأمين العام لهيئة العلماء والدعاة ببيت المقدس
WWW.ALGANTAN.COM
 
قال الله تعالى :" الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من  خير يعلمه الله وتزودوا فغن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب"سورة الحج آية :197

  في ظلال الآية التي تتحدث عن فريضة الحج نقف عدة وقفات وهي :

  الوقفة الأولى:  كنا  في شهر ذي القعدة ويليه شهر ذي الحجة وشهر محرم وهي من الأشهر الحرم ، وقد جمع الله لكم فيها شرف الزمان وشرف المكان وشرف الأعمال الصالحات وشرف المكانة والانتساب إلى هذا الدين وشرف علو المقام في الدارين، فمن مثلكم في الأمم  فطيروا فرحا بهذا الشرف كله وتمسكوا به وعضوا عليه بالنواجذ فأنتم والله من دون الأمم الأحق أن تسودوها  وتقودوها ليسعد البشر بشريعتكم بعد أن أشربوا ظلم العلمانية وجورها ، وبعد أن تطاولت عليهم الاشتراكية ببغيها وحقدها وبعد أن اجتمعت عليكم أمم الأرض كافرها ومنافقها تسفك دماءكم وتستخرب بلادكم وتنتهك أعراضكم وتأكل خيراتكم وهذا واقعكم  خير مثال لتكالبهم عليكم ف:"يا أيها الذين امنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون"....

 الوقفة الثانية : أما شرف الزمان فمنه الأيام العشر الأوائل من ذي الحجة التي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنها:"أفضل أيام الدنيا فقيل:ولا مثلهن في سبيل الله؟قال:"ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجل عفَّر وجهه بالتراب " ، ومن شرف الزمان للمسلمين أن كل يوم من الأيام العشر أفضل من غيره من أيام السنة ، ومن شرف الزمان الذي خصّكم الله به يوم عرفة وهو يوم مغفرة الذنوب والعتق من النار  ويوم النحر وهو يوم الحج الأكبر فيه يقدم المسلمون هداياهم  وأضاحيهم تقربا إلى الله تعالى ، ويتزامن يوم النحر في زماننا هذا مع تقديم المسلمين في شتى بقاع الأرض أرواحهم ودماءهم ابتغاء رضوان الله تعالى ،  فاللهم تقبل من المسلمين تضحياتهم وامنن  عليهم بالتمكين في الأرض واجعلهم أئمة وجعلهم الوارثين...

 الوقفة الثالثة: والعجب كل العجب من كثير من المسلمين أنهم يغفلون عن هذه الأيام وفضلها مع أن العاقل من المسلمين يتعامل مع هذه الأيام كما يتعامل مع شهر رمضان في الاجتهاد بالعبادة والطاعات وعمل الخيرات ، ثمّ إنّ أعجب العجب أن نرى فئات من المسلمين يبادرون إلى معصية الله والمجاهرة في هذه الأيام ومنها المجاهرة بإقامة الحفلات الموسيقية في حفلات الزواج والأفراح وغيرها ينفقون عليها الأموال الطائلة  ،فهل ينتظر هؤلاء ومن يسكت عليهم أو يشاركهم فيها إلا المسخ والخسف ففي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"يكون في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ قالوا يا رسول الله  ومتى ذاك"قال إذا ظهرت المعازف وكثرت القيان - أي المغنيات - وشرب الخمور"  ، وإني والله لأعجب من شعبنا كيف لا يرجع إلى ربه ليرفع عنه ما هو فيه من عذاب الخوف والجوع والظلم !!   وأعجب من الصالحين فينا كيف لا يهزهم قول النبي صلى الله عليه وسلم "يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف قالت عائشة راوية الحديث :يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟قال:نعم إذا ظهر الخبث " ،فالهلاك يعم الصالح والطالح والمسخ يكون حقيقيا أو معنويا فالحقيقي: أن يصير صاحب الذنب خنزيراً حقيقياً أو قرداً حقيقياً، ثم يموت بعد ذلك بزمن يسير، وأما المسخ المعنوي: فأن تصبح أخلاق الممسوخ أخلاق القرود، وأشهر أخلاقها التقليد الأعمى، وأخلاق الخنازير، وأشهر أخلاقها عدم الغيرة على الأنثى، وهذا واقع في بعض العصاة  اليوم، فأفيقوا من غفلتكم وارجعوا إلى دينكم وتوبوا إلى الله توبة نصوحا فان التوبة النصوح هي التي تكون توبة من كل الذنوب ، فاللهم ارزقنا التوبة والأوبة إليك ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ...

الوقفة الرابعة:  وأما شرف المكان ففي بيت الله الحرام والمشاعر العظام منى ومزدلفة وعرفة والمسجد النبوي والمدينة المنورة والمسجد الأقصى وبيت المقدس ، أما مكة والمدينة فقد حرم الله فيهما القتال وجعلها آمنين ونسال الله تعالى أن يحفظهما من كل باغ وملحد ظالم ، وأما المسجد الأقصى فقد جعله الله أرض رباط إلى يوم القيامة ولا يزال المسجد الأقصى يتعرض إلى الظلم والعدوان بدءا باحتلاله ومرورا بحرقه قبل سبعة وأربعين عاما والى الآن بشتى أنواع الاعتداءات ، والحقيقة التي يتجاهلها الظالمون أن المسجد الأقصى لا يقبل القسمة على طرفين وتستحيل فيه الشراكة بين دينين ولا يرتضي غير ولاية المسلمين عليه ولاية عامة تامة شاملة ، ومع كل هذه الحقائق فما يتعرض له مسجدنا الأقصى من انتهاكات لرحابه ومبانيه مخالف للقانون الدولي والأعراف والشرائع والأخلاق ... وعلى كل حال فنحن راضون بسنّة الله فينا حتى يأتي أمر الله مصداقا لقول رسولنا صلى الله عليه وسلم فينا نحن أهل بيت المقدس:"لا يضرهم من مخالفهم ولا ما أصابهم من لأواء حتى يأتي أمر الله وهم كذلك " ،فيا ربنا ويا مولانا احفظنا للمسجد الأقصى واحفظ المسجد الأقصى لنا ...

الوقفة الخامسة:  ومن الشرف الذي جمع لهذه  الأمة شرف الانتماء لهذا الدين والولاء والبراء فيه وله  ، فينشىء في نفوس معتنقيه انتماء يتخطى الحواجز المكانية والزمانية  ، ويتجاوز الخلافات السياسية والمادية تحت اسم"الأمة الإسلامية" فيلفظ العربي الفصيح والأعجمي "لا اله الا الله محمد رسول الله" ،


 وتصطف صفوف الصلوات الخمس خلف إمام واحد يصلون لرب واحد ، ويقتطع المسلم الغني زكاة ماله لإخوانه الفقراء ويمسك أكثر من مليار من البشر عن الأكل والشرب في شهر واحد وتبعث كل أمة بوفدها إلى بلد واحد في شهر واحد لأداء نسك واحد على صعيد واحد لباسهم واحد يلبون لرب واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد فيتجلى أحد مقاصد الدين ألا وهو تحقيق الموالاة بين المؤمنين وشعورهم برابطة الإخوة الإيمانية قال الله تعالى:"إ نما وليكم الله ورسوله والذين امنوا الذي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون  ،وقال:"والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض" ، وهذه الموالاة تفرض حقوقا وحرمات جسدها النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة عرفات وبين يديه مائة ألف أو يزيدون حين قال :" إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا"، فماذا نقول للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين معه وبعده الذين حققوا تلك الوحدة وشرف الانتماء لهذا الدين والولاء والبراء فيه ونحن نسفك دماء بعضنا بعضا و متفرقين إلى دويلات ،وولاؤنا للكافرين ، فاللهم ألف بين قول المسلمين واجمع كلمتهم ووحد صفهم وانصرهم على من بغى عليهم ...

 الوقفة السادسة: وأما شرف الأعمال والطاعات فلا تغفلوا عنها في الأشهر الحرم وبخاصة في العشر الأوائل من ذي الحجة التي ستدخل عليكم بعد أيام ، ويجمع هذه الطاعات المتابعة والانقياد لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم:"وعبادة الحج يتجلى فيها الانقياد التام والمتابعة المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالحاج يتقلب في مناسك متنوعة وينتقل بين مشاعر متعددة لا يعقل لكثير منها معنى سوى الامتثال لأمر الله والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم  فهو يقبل حجرا تارة ويرمي حجرا تارة أخرى وهو يتجاوز مشعرا ليصل إلى آخر ثم يعود إلى الأول وهو يطوف سبعا ويسعى سبعا ويرمي بسبع دون أن يدرك معنى خاصا للعدد فكونوا كالصحابة  رضي الله عنهم فهذا عمر رضي الله عنه يقبل  الحجر الأسود قائلا:" إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك" 

 الوقفة السابعة: ولم يكن الصحابة رضوان الله عليهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم في المناسك ولا في غيرها أواجب هذا أو سنة بل كانوا يعظمون سنّته ولا  يماكسون فيها ولا يتتبعون الرخص والشاذ من الفتاوى كما يصنع الناس اليوم ويعلمون بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم :"ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم"،  فلا تكونوا يا عباد الله من الذين إن عملوا ما نهوا عنه قالوا : سيغفر لنا فإنا لم نشرك بالله شيئا ، وإن قصّروا عما أمروا به قالوا إن الله غفور رحيم فهؤلاء أمرهم كله طمع ليس معه صدق ولا ورع، فاللهم ارزقنا تعظيم حرماتك والنشاط في طاعتك ومرضاتك  ...
 
 الوقفة الثامنة: كان موسم الحج الميدان المناسب لإعلان البراءة  من الكفار على اختلاف أصنافهم ومللهم زمانا ومكانا حيث أنزل الله تعالى صدر سورة براءة :"براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهر خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير  معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم" ، وقرر النبي صلى الله عليه وسلم هذه البراءة من الجاهلية وأهلها في خطبة عرفة حين قال:"ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وربا الجاهلية موضوع وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتابَ الله "... أيها المسلمون :.....إن الدرس العظيم الذي ينبغي أن يرجع به كل مسلم حجّ أو لم يحجّ أن يعلم أنه من أمة مصطفاة خُيّرت على سائر الأمم وهديت لأفضل السبل ، وأن ليس ثّمّ إلا إسلام أو جاهلية ،هدى أو ضلالة ، طاعة أو معصية ، صبغة الله أو  صبغة الذين لا يعلمون ، وقد قال ربنا عزّ وجلّ  " ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون"....
والحمد لله رب العالمين
 
 

 
 

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More