تعديل

الجمعة، 4 نوفمبر 2016

من فقه القرآن : الوصايا العشر (2)


من فقه القرآن
الوصايا العشر(2)
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي
إمام وخطيب المسجد الأقصى المبارك
الأمين العام لهيئة العلماء والدعاة ببيت المقدس

  قال الله تعالى :" قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا.....ألخ"
فقه هذا المقطع القرآني وفوائده في المسائل الآتية:
المسألة الأولى:قلنا هذه  الوصايا التي أمر الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وأمر رسله من قبل بتلاوتها على مسامع المكلفين لأن بها نظام حياتهم وعقد وجودهم وبدونها يخلعون ثوب الإنسانية وعباءة التكريم لهم بوصفهم بشرا مكرمين من الله تعالى .
المسألة الثانية : والوصية في لغة العرب هي أن تتقدم إلى غيرك طالبا منه العمل قارنا طلبك له بالوعظ ،وقد جاءت الوصية في القرآن الكريم للناس بصور عديدة ،فأحيانا جاءت عامة للمسلمين وغيرهم من أهل الكتاب مثل قوله تعالى :" ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله " ، وأحيانا جاءت خاصة للمؤمنين مثل :" يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين"....
المسألة الثالثة: فالوصية تكون بين طرفين الموصي والموصى له ، والعادة في الوصية أن الموصى له منتفع بها دائما سواء كانت وصية مالية أو وصية أدبية ومعنوية أو غير ذلك ، وواجب الموصى له أن يأخذ الوصية على محمل الجدّ والاهتمام وأن يعمل بها كما جاءت ما دامت   لا تخالف أحكام الشريعة الإسلامية، هذا إذا كانت الوصية من إنسان  إلى إنسان فكيف إذا كانت الوصية من الله تعالى إلى المخلوق ،فحري حينئذ أن يعضّ عليها بالنواجذ.
المسألة الرابعة: والوصية الأولى من الوصايا العشر هي الوصية بتوحيد الله تعالى ونبذ الشرك بكل ألوانه وأشكاله فقال سبحانه:" ألا تشركوا به شيئا" ،و كانت هذه الوصية هي أولى الوصايا لأن بالعمل بها يكون الصلاح للناس فهي مفتاحه في الدنيا وهي مفتاح النجاة في الأخرة.
المسألة الخامسة:  وهذه الوصية أصل في خلوص الأعمال لله تعالى وخلوصها من شائبة الرياء وغيرها  ففِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ). وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عن أنس بن مَالِكٍ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يُجَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصُحُفٍ مُخْتَمَةٍ فَتُنْصَبُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ أَلْقُوا هَذَا وَاقْبَلُوا هَذَا فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ وَعِزَّتِكَ مَا رَأَيْنَا إِلَّا خَيْرًا فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ- وَهُوَ أَعْلَمُ- إِنَّ هَذَا كَانَ لِغَيْرِي وَلَا أَقْبَلُ الْيَوْمَ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهِي)، وقَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ فَمَنْ أَشْرَكَ مَعِي شَرِيكًا فَهُوَ لِشَرِيكِي يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَخْلِصُوا أَعْمَالَكُمْ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا خَلَصَ لَهُ وَلَا تَقُولُوا هَذَا لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ فَإِنَّهَا لِلرَّحِمِ وَلَيْسَ لله منها شي ...)
المسألة السادسة:قال القرطبي في تفسيره الجامع :"اذا ثَبَتَ هَذَا فَاعْلَمْ: الشِّرْكُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ وَكُلُّهُ مُحَرَّمٌ وهي:  المرتبة الأولى:اعْتِقَادُ شَرِيكٍ لِلَّهِ فِي أُلُوهِيَّتِهِ، وَهُوَ الشِّرْكُ الْأَعْظَمُ وَهُوَ شِرْكُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).  المرتبة الثانية: اعْتِقَادُ شَرِيكٍ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْفِعْلِ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَوْجُودًا مَا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَقِلُّ بِإِحْدَاثِ فِعْلٍ وَإِيجَادِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ كَوْنَهُ إِلَهًا . المرتبة الثالثة: الْإِشْرَاكُ فِي الْعِبَادَةِ وَهُوَ الرِّيَاءُ، وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِفِعْلِهَا لَهُ لِغَيْرِهِ. ، وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ الْأَنْصَارِيِّ وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ نَادَى مُنَادٍ مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ)، وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نتذاكر المسيخ الدَّجَّالَ فَقَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عليكم عندي من المسيخ الدَّجَّالِ؟) قَالَ: فَقُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: (الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ)، وعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أن أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ أَمَا إِنِّي لَسْتُ أَقُولُ يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا وَثَنًا وَلَكِنْ أَعْمَالًا لِغَيْرِ اللَّهِ وَشَهْوَةً خَفِيَّةً) ،وعَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشَّهْوَةِ الْخَفِيَّةِ فَقَالَ: (هُوَ الرَّجُلُ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ يُحِبُّ أَنْ يُجْلَسَ إِلَيْهِ).
المسألة السادسة: وقَالَ سهل بن عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الرِّيَاءُ عَلَى ثَلَاثَةِ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا:أَنْ يَعْقِدَ فِي أَصْلِ فِعْلِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَيُرِيدَ بِهِ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّهُ لِلَّهِ، فَهَذَا صِنْفٌ مِنَ النِّفَاقِ وتشكك في الإيمان.   والثاني: إذا دْخلَ فِي الشَّيْءِ لِلَّهِ فَإِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ غَيْرُ اللَّهِ نَشِطَ.
الثالث:أن يدَخَلَ فِي الْعَمَلِ بِالْإِخْلَاصِ وَيخَرَجَ بِهِ لِلَّهِ فَعُرِفَ بِذَلِكَ وَمُدِحَ عَلَيْهِ وَسَكَنَ إِلَى مَدْحِهِمْ، فَهَذَا الرِّيَاءُ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ سَهْلٌ :قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: الرِّيَاءُ أَنْ تَطْلُبَ ثَوَابَ عَمَلِكَ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا عَمَلُ الْقَوْمِ لِلْآخِرَةِ. قِيلَ لَهُ: فَمَا دَوَاءُ الرِّيَاءِ؟ قَالَ كِتْمَانُ الْعَمَلِ، قِيلَ لَهُ: فَكَيْفَ يُكْتَمُ الْعَمَلُ؟ قَالَ: مَا كُلِّفْتَ إِظْهَارَهُ مِنَ الْعَمَلِ فَلَا تَدْخُلْ فِيهِ إِلَّا بِالْإِخْلَاصِ، وَمَا لَمْ تُكَلَّفْ إِظْهَارَهُ أَحَبُّ أَلَّا يَطَّلِعَ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ: وَكُلُّ عَمَلٍ اطَّلَعَ عَلَيْهِ الْخَلْقُ فَلَا تَعُدُّهُ مِنَ الْعَمَلِ. وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: مَا هُوَ بِعَاقِلٍ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْرِفَ مَكَانَهُ مِنْ عَمَلِهِ "انتهى  المنقول عن القرطبي"
المسألة السابعة: والشرك في الدين نوعان  الأول: إثبات شريك لله تعالى وذلك أعظم كفر. قال تعالى:" إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ" وقال: "وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً"
وقال: "سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا" . والثاني: الشِّرْكُ الصّغير وهو الرّياء والنّفاق كما قال الله تعالى:"وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«الشّرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النّمل على الصّفا»
المسألة الثامنة : بعد كل ما علمت أخي القارىء الكريم من الشرك وخطورته  يتبين لك أن قوله تعالى :" ألا تشركوا به شيئا جاء  في موضع نصب والمعنى تعالوا أتلو عليكم ألا تشركوا أي أتل عليكم تحريم الإشراك ، وقد تكون منصوبة على الإغراء فيكون المعنى : عليكم ترك الإشراك ، وفي كلا الحالتين فإن المكلف مأمور بالتوحيد ونبذ الشرك بالنهي عنه، تارة وبالإغراء تارة أخرى.
المسألة التاسعة : ويمكننا الخروج بالفوائد الآتية بعد  الذي قدمناه عن الشرك :
 
الفائدة الأولى:الشرك شركان شرك أكبر وهو عبادة غير الله تعالى ، وشرك أصغر والرياء جزء منه ،وكلاهما طريق إلى الخسران وغضب الله على العبد وحرمانه من رحمته ،وقد قال الله تعالى في الحديث القُدسي: ((أنا أغْنَى الشُّركاء عنِ الشرك، مَن عمِل عملاً أشْرَك معي فيه غيري تركتُه وشِرْكه)، فالنجاة باجتناب الشرك بأنواعه كلها.
الفائدة الثانية:من المحرمات المتعلقة بالشرك:زيارة قبور الصالحين والأولياء بقصد التوسل والاستغاثة وهذا شرك أكبر يقع به العوام وبخاصة النساء ،وفي الحديث الشريف:" واعلم أنَّ الأمة لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإنِ اجتمعوا على أن يضرُّوك بشيء لم يضرُّوك إلا بشيء قد كتَبَه الله عليك، رُفِعت الأقلام وجفَّتِ الصُّحُف"، والحلف بغير الله تعالى كالحلف بالشرف والعرض والأم والشوارب والكعبة والنفس وغيرها وقد جاءت عديد الأحاديث تنهى عنها مثل : إن الله ينهاكم أن تحلِفوا بآبائكم، فمَن كان حالفًا فليحلفْ بالله أو ليصمت"
و"من حلف بالأمانة ليس منّا"، ومن المحرمات الشركية تعليق التمائم وهي الخرزات التي يزعم العوام أنها تذهب شر العين والجن والحسد ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :" من علق تميمة فقد أشرك"، والمحرمات الشركية عديدة السلامة اجتنابها والتحذير منها ...
والحمد لله رب العالمين




0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More