تعديل

السبت، 28 أكتوبر 2017

من فقه القرآن : تفسير سورة الإسراء 3


تفسير سورة الإسراء  :  (3)
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي
إمام وخطيب المسجد الأقصى المبارك
الأمين العام لهيئة العلماء والدعاة ببيت المقدس
www.algantan.com
 
 قال الله تعالى :" سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى  الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني اسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا  ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا..."
 فقه الآيات الكريمات وفوائدها في المسائل الآتية:
المسألة الأولى :  إذا ذكر التسبيح فإن الحمد يلازمه ، ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى "فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون"أتبعها بقوله " وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون" ، ومن الأمثلة من السنّة النبوية حث النبي صلى الله عليه وسلم المسلم على قول "سبحان الله وبحمده :، وأما سورة الإسراء فلما ابتدأها الله تعالى بالتسبيح اختتمها بالحمد فقال سبحانه " وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا"،وذلك كما قلنا لأن التسبيح يقتضي أن يعقبه الحمد ، ولعل الحكمة من هذا هو أنه لما كان التسبيح تعظيم لله تعالى على عظيم فعله الذي يعجز عنه المخلوق ، وتنزيه له سبحانه عما لا يليق به من صفات النقص ، وجب على العبد أن يحمده عزّ وجلّ على هذا كله ، مع ملاحظة أن الحمد يكون على جميل الصفات والأفعال وهو أشمل من الشكر وأعم لأن الشكر يكون على الثناء على المنعم ، وهو داخل في معاني الحمد ، وأيضا لأن الله تعالى لما أقدر العبد على تعظيمه وتنزيهه ، وجب على العبد حمده على نعمة التسبيح له لأنها من أعظم مقامات العبودية لله رب العالمين .
 المسألة الثانية: الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم معجزة من المعجزات التي أيد الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم لتدل  على صدق نبوته وأن القرآن الكريم هو من عند الله تعالى ، ومن الأدلة على أن الإسراء معجزة  أنه كان  بالروح والجسد  وإلا لما بدأت  السورة بالتسبيح فلو كان الإسراء مناما لما  احتاج إلى التقديم لذكره بالتسبيح الدال على عظمة الله تعالى .
 المسألة الثالثة: وللإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم مقاصد وحكم عديدة أهمها: أولا: تكريم ومواساة وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم بعدما فقد نصيريه عمه (أبو طالب) وزوجته خديجة رضي الله عنها حيث سمّي ذلك العام الذي  ماتا فيه عام الحزن ، وبعد أن أوذي من قريش   في مكة وثقيف في الطائف أشد الإيذاء فلما فقد  من ينصره على الأرض استضافه الله في هذه الرحلة المعجزة تثبيتا له وتأكيدا على أن الله ناصره ومؤيده بعد عودته من إسرائه ومعراجه وقد تمّ له ذلك بالهجرة بعدها بأشهر إلى المدينة المنورة وتأسيس نواة لدولة الإسلام التي امتدت في أرجاء الدنيا تبشر بهذا الدين العظيم ،ثانيا: للرد على المشركين الذين عبدوا الأصنام  وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم  وزعموا أن القرآن ليس من عند الله تعالى ، فالله القادر على الإسراء بنبيه إلى القدس والعروج به منها إلى السموات العلى هو الأحق بالعبادة من الأصنام ، ومحمد هو رسوله الذي بعثه ، والقرآن هو كلامه الذي أنزله عليه.
المسألة الثالثة :وأما الحكمة من اختصاص المسجد الأقصى بالإسراء إليه وليس لغيره من الأماكن فهي - والله أعلم - : أولا :  حتى تحصل للنبي صلى الله عليه وسلم فضيلة  فضيلة شد الرحال إلى المساجد الثلاثة  فهو صلى الله عليه وسلم يقول :" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا    وهو  صلى الله عليه وسلم قدوة للمسلمين  وإذا قال فعل ، فاختص المسجد الأقصى بالإسراء حتى إذا ما  دعا النبي صلى اله عليه وسلم المسلمين إلى شد الرحال إلى المساجد الثلاثة يكون قد سبقهم بشد الرحال إليه ، ثانيا : لأن الله يعلم - وهو علام الغيوب-  أن بني إسرائيل سيزعمون أن لهم الحق في المسجد الأقصى ،ففي الإسراء إليه بمحمد صلى الله عليه وسلم إبطال لدعواهم وتأكيد على أن المسجد الأقصى هو حق المسلمين وحدهم ، وقد أكد الله تعالى هذه الحقيقة بتسميته بالمسجد ، والمسجد هو مكان عبادة للمسلمين أما غير المسلمين فمكان عبادتهم يسمى كنيسة أو بيعة ، ثالثا: لأن المسجد الأقصى وما حوله أرض النبوات وملتقى الرسل ، فكان الإسراء بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى بصفته آخر الرسل والنيين تأكيد على أن صاحب الولاية عليه هم المسلمون إلى أن تقوم الساعة  ومن يدعي غير هذا فهو ظالم أفّاك ومعتد لا تقبل دعواه ولا يجب أن ينصر أو يلتفت إلى ما يدعيه بل قد حكم الله عليه الخسران في الدنيا والآخرة وذلك حين قال في سورة البقرة :" ومن أظلم ممن منع مساجد  الله أن يذكر فيها  اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم " ،  وقد قال القرطبي في تفسيره " الجامع" أن مساجد الله في الآية هي المسجد الأقصى ، ونلاحظ  المناسبة بين هذه الآية من سورة البقرة وبين أوائل آيات الإسراء ، فآية  سورة البقرة تبين أن بني إسرائيل يسعون لتخريب المسجد الأقصى التخريب المادي والمعنوي ، والآيات الأوائل من سورة الإسراء تتحدث عن هذا التخريب بوصفه "إفسادا " ،رابعا: لأن المسجد الأقصى وأكنافه أرض المحشر كما جاء في الحديث الشريف أنه " أرض المحشر" ، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم حين عرج به إلى السموات العلى من المسجد الأقصى من نعيم الجنة وعذاب النار فناسب أن يكون الإسراء إلى بيت المقدس ، أضف إلى ذلك أن  بيت المقدس هي محشر بني إسرائيل قبل قيام الساعة ، وهو الحشر الذي هم فيه الان والذي يفسدون فيه الإفساد الثاني وهو وعد الآخرة الذي ذكرته سورة الإسراء فناسب أن يكون الإسراء إلى المسجد الأقصى .
المسألة الرابعة:  قوله تعالى "الأقصى" إشارة إلى  المسجد النبوي ، وأن المساجد التي تشد الرحال إليها في الإسلام ثلاثة وهي : المسجد الحرام والمسجد الأقصى والمسجد النبوي، وهذه الإشارة إلى المسجد النبوي دل عليها أن الأقصى هو الأبعد فهناك إذا مسجد أبعد وهو المسجد الأقصى  ومسجد بعيد وهو المسجد النبوي الذي سيكون بعد ذلك ، فالآية بشرت بوجود المسجد النبوي كما نرى .
 المسألة الخامسة: المسجد الحرام سمّي بالحرام لأن الله جعله مسجد آمنا يحرم القتال فيه ، ونصفه بالحرم ، أما المسجد الأقصى فهو ليس حرما فقد سنّ الله فيه أن يكون أرض قتال ورباط إلى يوم القيامة ، وعليه فإن علينا أن نتوقف عند الأسماء كما هي فلا نقول عن المسجد الأقصى " الحرم " ولا نقول عن حائط البرق "الكويتل" ، ولا نقول عن المسجد الأقصى " هار هبيت ".
المسألة السادسة: لما كان الإخبار عن معجزة الإسراء وهو مقام يقتضي التعظيم نرى أن الله سبحانه عظّم نفسه فقال بصيغة التعظيم "باركنا" و"لنريه " ، ومقام التعظيم لا ينبغي إلا لله تعالى .
المسألة السابعة: قوله تعالى " باركنا" فيه مجموعة من الفوائد وهي: أولا: عب{ بصيغة الماضي عن المباركة ليدل على الثبات والاستمرار والتحقق للبركة في المسجد الأقصى وما حوله ، ثانيا : البركة غير مقيدة ولا محدودة في الآية فهي شاملة لكل أنواع البركة في الدين والدنيا، ثالثا: الفعل "باركنا" مسند إلى الله تعالى ، فالبركة إذن ظاهرة ومتحققة ، رابعا:  لبركة الدين في المسجد الأقصى مظاهر عديدة فهي عدا عن أنها متعبد الأنبياء ومهبط الوحي فهو أيضا أرض نهر جار للحسنات لمن يرابط فيه إيمانا واحتسابا ، وأما بركة الدنيا في بيت المسجد الأقصى وبيت المقدس فقد ذكر المفسرون أقوالا عديدة وأنها المباركة بالزروع والثمار والرزق والمعيشة والحرث والغرس ،وأقول أن المباركة في بيت المقدس في الدنيا عديدة أظهرها أن أهلها إن افتقروا لم يجوعوا كما يحصل لغيرهم من الناس في الأماكن الأخرى.
المسألة الثامنة" قوله تعالى "إنه هو السميع البصير: تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتهديد وتوعد للمشركين ، أما أنه تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم فمعناه أننا نرى ما يفعل بك المشركون وما ينزل بك من أذى منهم ونسمع شكواك و الله ناصرك ومؤيدك ، وأما أنه تهديد ووعيد للمشركين فمعناه نرى عداؤكم لرسولنا ونسمع أقوالكم القبيحة التي تقولونها له ، وإننا قادرون على أن ننتقم منكم ونعذبكم بسبب كفركم وعنادكم ورفضكم لقبول الحق وهو دين الإسلام الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ....
والحمد لله رب العالمين
 

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More