تفسير سورة الإسراء : (5)
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي
إمام وخطيب المسجد الأقصى المبارك
الأمين العام لهيئة العلماء والدعاة ببيت المقدس
WWW.ALGANTAN.COM
قال
الله تعالى :" إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا "
فقه الآية الكريمة وفوائدها في المسائل الآتية:
المسألة الأولى: وجدت من خلال دراستي المعمّقة في التفسير أن في كل سورة
آية تقوم عليها ،فهي محور السورة التي تدور وتنبني عليها آياتها الكريمة ، وهذه
الآية هي محور سورة الإسراء ،وذلك للأسباب الآتية: أولا: أن هذه الآية مستأنفة
استئنافا ابتدائيا لبيان أهم أغراض سورة الإسراء وهي تأييد الرسول صلى الله عليه
وسلم بالمعجزات الدالة على صدق نبوته وأعظم هذه المعجزات القرآن الكريم فناسب أن
تكون هذه الآية محورا للسورة الكريمة تقوم عليه ، ثانيا أن السورة ابتدأت ببيان أن
التوراة أنزلت كتاب هداية لبني
إسرائيل ولكن لما لم ينتفعوا به أصابهم ما أصابهم من الإفسادين في
الأرض وعاقبة هذين الإفسادين بتسليط الله
تعالى عليهم عباده المؤمنين ، فجاءت هذه الآية لتطمئن المسلمين أنهم لن يصيبهم ما
أصاب بني إسرائيل من العذاب الدنيوي لأن هذا القرآن من صفته أن يعصمهم مما وقع فيه
بنو إسرائيل فهو يهدي للتي هي أقوم أي :أقوم من هدى التوراة ، وبهذا فإن أمة
القرآن معصومة في كتابها، ومعصومة في
نهجها ، ومحفوظة بحفظها لكتاب ربها عزّ وجلّ ،ثالثا:جاءت عدة آيات في السورة تؤكد
على محورية هذه الآية الكريمة فيها ، وان السورة كلها تقوم عليها ،فقال تعالى في
الآية الحادية والأربعين :" ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا
نفورا"، والتصريف كناية عن التبيين للناس بكل أنواع التبين لكي يتذكروا
ويتعظوا وينتفعوا به ومع هذا التبيين كله إلا أن حالهم يدعو إلى العجب فهم يهربون
من القرآن وهدايته كهروب الدابة والحيوانات الوحشية مما يؤذيها فهم كالدواب
والنعام لفرط جهلهم ، وفي هذا تعريض بأهل الكتاب من بني إسرائيل الذين ذكرتهم
السورة في بداياتها وأشارت إليهم في أواخرها ، وتعريض بالمشركين الذين كذبوا
بالقرآن وبالنبوة وبالإسراء بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ، وآيات
السورة الكريمة تدور حول علاقة الكفار وأهل الكتاب بالقرآن جحودا وإنكارا فناسب أن يكون قوله تعالى :"إن هذا القرآن يهدي
للتي هي أقوم؟؟؟ألخ الآية ، ثم أخبرت السورة عن عدم انتفاع هؤلاء جميعا بالقرآن
للسبب الذي ذكرناه فقالت :" وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا
يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا
وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولّوا على أدبارهم نفورا"،فلما نوّهت السورة
بأن القرآن يهدي للتي هي أقوم من أصول
العقيدة وجوامع الأعمال الصالحة وتخلل ذلك مواعظ وعبر أكدت هنا على أن أهل الكتاب والمشركين لا يفقهون أن كل ما
في الكون ينزه الله تعالى عن كل نقص ، وعادت لتنبيههم على وجوب الانتهاء عن الكفر و المعاصي عنادا واستكبارا ،
وطمأنت النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم على عدم وصول ضرهم ومكرهم إليه ، أضف
إلى ذلك أن السورة نوّهت بأن القرآن الكريم هو
مصدر الشفاء والرحمة لم آمن به فقالت في الآية الثانية والثمانين :"
وننزل من القرآن ما ه شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا"،فالسورة
من بدايتها إلى آخرها تتحدث عن الصراع بين
الحق وهو القرآن وأتباعه وبين الباطل وهو الكفر بالقرآن فجاء قول الله تعالى " وننزل من القرآن ما
هو شفاء.." بعد قوله تعالى:" وقل جاء الحق وزهق الباطل" للتاكيد أن
نهاية المعركة مع بني إسرائيل ومع المشركين
هو هزيمة الباطل وانتصار الحق وأهله أهل القرآن ، بدلالة أن القرآن الكريم
هو شفاء من كل عقيدة باطلة ومن كل عمل
فاسد ومن كل خلق ذميم وذلك بأوامره ونواهيه وقصصه وأمثاله ووعده ووعيده
الذي تخللته هذا السورة وجاء في كل سور القرآن الكريم ، ولما كان القرآن بهذه
الصفات والهيمنة والعلو تحدت السورة الكريمة الإنس والجنّ أن يأتوا بمثله ، وفي
هذا دلالة على أن من يكفر بالقرآن لا مصير له إلا الخسران ففي الآية الثامنة والثمانين قال الله تعالى
:" قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله
ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا"... وهكذا نرى أن قوله تعالى " إن هذا القرآن
يهدي للتي هي أقوم.." هو محور السورة التي تقوم عليها آياتها .
المسألة الثانية : القرآن
الكريم معظمه وعد ووعيد ، فالوعد فيه الترغيب والوعيد فيه الترهيب ، ومن أسلوب
القرآن في تربيته للنفوس البشرية تقديم الترغيب على الترهيب ، لأن النفوس تميل إلى
الترغيب والاستجابة من خلاله إلى المأمور به أو الانتهاء عن المنهي عنه أكثر من
الترهيب ، لآن في الترغيب ميل واستثارة و تحبيب للشيء أما الترهيب ففيه تيأييس
وتقنيط ، والآية جاءت بالترغيب أولا قبل
الترهيب فبينت أن القرآن مصدر هداية لكل خير ، وبشرت أن من يتبعه له الأجر الكبير
وهو الجنة وما فيها من نعيم مقيم ،ثم أكدت على أنه مصدر هداية بنون التوكيد ،
وباسم الإشارة (هذا) للدلالة على قربه ممن آمن به وسهولة الانتفاع به من غير عناء
فهو ليس طلاسم ورموز لا تعرف معانيها بل هو آيات واضحات محكمات بينات لمن أراد
الهداية به والبشارة من خلاله .
المسألة الثالثة: قوله تعالى (القرآن) في الآية ولم يقل
الكتاب أو أي صفة أخرى له كالفرقان أو غيرها للدلالة على أن القرآن الكريم محفوظ
من التبديل والتغيير على مدى العصور والأزمان لأن القرآن مأخوذ من القرء وهو الجمع
، والقرآن مجموع ومحفوظ في الصدور عدا عن حفظه في السطور ، وهذا فيه دلالة أن
القرآن وحده من دون الكتب السماوية مصدر الهداية ، ولا هداية في غيره من الكتب
السماوية السابقة ،لأنها غير محفوظة من التبديل والتغيير ، فلا يسع الكفار
والمشركين وأهل الكتاب إلا اتباعه إن أرادوا الهداية والبشارة بالجنة والنجاة ومن
النار ولهذا جاءت الآية بعدها تحدد مصير من يكفر بالقرآن الكريم فقالت :" وأن
الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما"؟
والحمد لله رب العالمين
0 التعليقات:
إرسال تعليق