تعديل

الأحد، 30 أكتوبر 2016

من فقه القرآن : الحلقة (1)

من فقه القرآن
الحلقة (1)
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي
إمام وخطيب المسجد الأقصى المبارك
الأمين العام لهيئة العلماء والدعاة
 
قال الله تعالى في سورة الأنعام :" قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ  وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ "
 
فقه الآيات الكريمات وفوائدها في المسائل الآتية:
 المسألة الأولى: هذه الآيات الكريمات جمعت عشر وصايا لأمّة موسى وأمّة محمد عليهما الصلاة والسلام  ولمن سبقهما من الأمم، ولو أخذت بها أمّة موسى عليه السلام لكان فيه نجاتها في الدنيا والآخرة ولو أخذت بها أمّة محمد صلى الله عليه وسلم  لما وصل حالها إلى هذا الحال من الفردية والتبعية والدنيّة والصغار في الأرض.
المسألة الثانية: ومما يدل على أهمية هذه الآيات  قول القرطبي :"هذه الآية مفتتح التوراة :قل تعالوا أتل ما حرم ما ربكم عليكم..." وقول ابن عباس:" هذه الآيات المحكمات التي ذكرها الله في سورة آل عمران وأجمعت عليها شرائع الخلق ولم تنسخ في أي ملّة" وقيل : إنها الكلمات العشر التي أنزلت على موسى . "
 
المسألة الثالثة :  أسلوب الخطاب في الآيات فيه تحفيز للمخاطبين على العمل بما حاء فيها والعض عليها بالنواجذ ، دل على ذلك عدة أمور:
الأمر الأول: الأمر المباشر للرسول محمد صلى الله وسلم بقول الله له :"قل" ، فهذا أمر إلهي لنبيه بتبليغ ما سيكون من أمر أو نهي بعده ، فهو أمر يتعلق بالتكليف الواجب على العباد الإذعان له والعمل به أمرا أو نهيا، وفيه استرعاء للأسماع.
الأمر الثاني: استنهاض الله عزّ وجلّ همم المخاطبين وعزائمهم بقوله :" تعالوا" وهذا اللفظ يعني قوموا ولا تتثاقلوا ولا توانوا واستعلوا على تثبيط الشيطان والنفس فإن لفظ "تعالوا" من العلو ولا يقال  إلا لمن كان قاعدا أن يتعالى عن مقعده ويقوم ،فأي مكلف يقرأ هذه الآيات عليه أن يتعالى عن كل مثبط عن أوامرها أو نواهيها.
الأمر الثالث: قوله سبحانه " ما حرّم" فيه تحفيز لكل مكلف فإن من طبيعة الإنسان إذا أخبر بشيء ممنوع عليه أن يتطلع إلى معرفة هذا الشيء لأن النفس لا تحب أن تحبس عن فعل شيء بعكس أمر الإنسان بشيء فإن الدافعية إلى معرفته تكون أقل من الدافعية لمعرفة ما تنهى أو تمنع منه.
الأمر الرابع: والتحفيز الرابع قوله سبحانه:"ربكم" والرب هو المربي بالنعم والفضائل ، أرأيت أخي القارىء الكريم لو أنّ إنسانا أنعم عليك ببيت فخم جاهز للسكن وأعطاك مالا يكفيك وجعل لك من يخدمك ويقوم بشأنك وأنت فقير محتاج لكل ذلك ثم قال لك  مقابل ما أعطيتك فقط أريد منك أن تمتنع عن بعض الأمور هل تعصيه ؟ بالطبع لا يعصيه إلا جاهل ، فكيف بالله تعالى الذي هو ربك الذي رباك بنعمه وآلآئه التي لا تعد ولا تحصى يطلب منك بوصفه ربا لك أن تمتنع عن بعض الأمور ألا تكون الإستجابة فورية ولا تملك إلا ـن تقول سمعا وطاعة؟؟؟
الأمر الخامس: قوله سبحانه:"عليكم" فيه تحفيز فإذا كانت "عليكم" منصوبة على الإغراء  على رأي من قال من علماء النحو بذلك كان التحفيز بالإغراء حينئذ ظاهرا ، وإذا كانت عليكم ليست للإغراء ففيها أيضا تحفيز لأن عليكم تعني أنك ملكف بهذا  وما دمت مكلفا بأمر أومنهي عنه فلا تملك إلا الفعل أو الترك أو ستكون معرضا للجزاء والعقوبة.
الأمر السادس: قوله سبحانه "أتلو" والتلاوة معناها القراءة والمتابعة ، وفي هذا اللفظ تحفيز من ناحيتين الأولى: أن التلاوة قراءة  فهناك قارىء وهناك مستمع يقرؤ عليه وله وفي هذه المشاركة بين القارىء والمستمع تشجيع للمستمع على الاهتمام بما يفرأ عليه ويستمع له، والناحية الثانية : أن التلاوة في الغة من أهم معانيها الاتباع كما قال الله تعالى في القرآن الكريم :" الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته" قال المفسرون يعني" يتبعونه حق اتباعه" ، فالتلاوة لا تعني مجرد القراءة والاستماع بل تعني الاتباع بعد المعرفة والعلم .
المسألة الرابعة: ولشيخنا العلاّمة الطاهر ابن عاشور كلام نفيس عند هذه الآيات وهو قوله:"  وَقَدِ انْقَسَمَتِ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الْجُمَلُ الْمُتَعَاطِفَةُ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الْمُفْتَتَحَةِ بِقَوْلِهِ: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: أَحْكَامٌ بِهَا إِصْلَاحُ الْحَالَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْعَامَّةِ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ مَا افْتتح بقوله: َألَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً.
الثَّانِي: مَا بِهِ حِفْظُ نِظَامِ تَعَامُلِ النَّاسِ بَعْضِهُمْ مَعَ بَعْضٍ وَهُوَ الْمُفْتَتَحُ بِقَوْلِهِ: "وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ"
الثَّالِثُ: أَصْلٌ كُلِّيٌّ جَامِعٌ لِجَمِيعِ الْهُدَى وَهُوَ اتِّبَاعُ طَرِيقِ الْإِسْلَامِ وَالتَّحَرُّزِ مِنَ الْخُرُوجِ عَنْهُ إِلَى سُبُلِ الضَّلَالِ وَهُوَ الْمُفْتَتَحُ بِقَوْلِهِ:" وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ". وَقَدْ ذُيِّلَ كُلُّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِالْوِصَايَةِ بِهِ بِقَوْلِهِ: "ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ"، فتدبر أخي القارىء في قول شيخنا الطاهر فإن هذه الآيات جمعت صلاح الناس كلهم أفرادا وجماعات ، صلاحا في مجتمعاتهم وصلاحا في أموالهم وصلاحا في سياساتهم وأمور حياتهم لم تتلاك من صلاحهم في الدنيا والآخرة  شيئا إلا  وذكرته أمرا أو نهيا ، وجعلت كل ذلك وصية الله لهم فأي إنسان لا يأخذ بوصية الله تعالى لا يكون إلا واحدا من اثنين إما مجنونا سقط عنه التكليف  أو عبدا لشهوته وشيطانه الذي غشّاه بغوايته وتضليله .
  المسألة الخامسة : لاحظ أخي القارىء أن صيغة التكليف  في الآيات جاءت مرة بالنهي وجاءت مرة أخرى بالأمر الصريح والمؤول ، وفي الاختلاف في صيغة الطلب أذكره في مواضعه إن شاء الله تعالى إذا لزم ذكره.
 المسألة السادسة : والوصايا العشر في هذه الآيات الكريمات أذكرها مجملة ثم أفص البيان في فقهها وفوائدها بعد ذلك ، وهي
الوصية الأولى : النهي عن الشرك بالله تعالى.
الوصية الثانية: الأمر ببر الوالدين.
 ثالثا: النهي عن قتل الأولاد الفقر أو كثرة النفقة.
رابعا: النهي عن الفواحش والتحذير من الاقتراب منها ومن أسبابها.
خامسا: النهي عن القتل لأن حق الحياة محفوظ للنفس البشرية في كل الشرائع إلا بحق الله تعالى.
سادسا: النهي عن الإعتداء على مال اليتيم بكل صور الإعتداء .
سابعا:الأمر بوفاء الكيل والميزان وحرمة التطفيف فيهما.
ثامنا : الأمر بالعدل في كل الأحوال .
تاسعا: الأمر بالوفاء بالعهد مع الله تعالى وعدم نقضه.
عاشرا:الأمر  باتباع شرع الله وهو الإسلام والنهي عن التفرق في الدين واتباع الفرق الضالة.
 
 المسألة السابعة:  جعل الله تعالى الوصايا الأولى للعاقلين فقال :" لعلكم تعقلون" وجعلها في الوصايا الثانية لمن يحتاج إلى التذكير وجعلها فيما تبقى من و صايا لمن يتقي الله ، ولعل الحكمة من المغايرة هنا ما يلي :
 أولا: جاء ت الوصية لأهل العقول حين ذكر أخطر الأمور  على المجتمعات البشرية والتي عواقبها كارثية وهي الشرك والقتل وعقوق الوالدين وارتكاب الفواحش فهذ مدمرة لكل مجتمع إنساني فوجب على أصحاب العقول الوقوف عندها واجتنابها والتحذير منها ومنعها فبمنعها  حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ النسل وهي أهم الضروريات التي جاءت بها الشرائع جميعا.
ثانيا: وجاءت الوصية بالتذكير عند مال التيم والوفاء بالعهد والكيل والميزان لأن هذه الأمور تتعلق بالنفس الإنسانية ورغباتها فلا بد من جمح النفس وذلك بتذكيرها بالله وعقابه وثوابه كي يستقيم أمرها وتفلح في الدارين الدنيا والآخرة.
ثالثا: وجاءت الوصية بالتقوى حين الاختلاف في أمر الدين واتباعه وترك الفئات الضالة والمبتدعة فهذا يحتاج من الإنسان إلى التقوى أي اتقاء ما يغضب الله واجتناب مالا يحبه من عباده وهذه التقوى التي تجعل الإنسان واضعا لحاجز بينه وبين التفرقة والإنقسام في الدين الذي هو مهلك والعياذ بالله.
 
 

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More