من فقه القرآن
الإيمان
الشيخ الدكتور محمد سليم محمد علي
خطيب المسجد الأقصى المبارك
أستاذ الفقه المقارن / جامعة القدس
قوله تعالى: «قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا، ولما يدخل الايمان في قلوبكم » الحجرات: 14 . فقه هذا المقطع القرآني الكريم وفوائده في المسائل الآتية:
> المسألة الاولى: الاعراب المذكورون في الآية الكريمة، هم الاعراب الذين ذكرتهم سورة «الفتح » وهم أعراب: مزينة، وجهينة، واسلم، وغفار، والديل، واشجع، زعموا انهم أمنوا، ليأمنوا على انفسهم واموالهم، فلما استنفروا الى المدينة المنورة تخلفوا
> المسألة الثانية: وروي ان هذه الآية الكريمة، نزلت في اعراب من بين اسد، قدموا على الرسول صلى الله عليه وسلم في سنة مجدبة، واظهروا اسلامهم بالشهادتين، وكانوا في سرائرهم غير مؤمنين، وفي طريقهم الى المدينة المنورة، افسدوا الطريق بالعذرات، واغلوا الاسعار، وكانوا يمنون على الرسول صلى الله عليه وسلم قائلين له: اتيناك بالاثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان فأعطنا من الصدقة، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.
> المسألة الثالثة: وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في اعراب ارادوا ان يتسموا باسم الهجرة قبل ان يهاجروا، فأخبر الله، ان لهم اسماء الاعراب لا اسماء المهاجرين.
> المسألة الرابعة: والآية لا تشمل كل الاعراب، فمنهم من يؤمن بالله واليوم الآخر، كما أخبر الله في سورة التوبة: «ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر » آية 99.
> المسألة الخامسة: فالايمان كما رأينا آنفا، ليس ادعاء، ولا تطاولا، ومن الناس اليوم من يزعم الايمان وهو غير متلبس به، لأن للايمان حقيقة يعرف بها، ومن الناس من يتطاول بايمانه على غيره، حتى وصل الامر ببعضهم ان يجعل لنفسه فضلا وشرفا على المسجد الاقصى، لصلاته فيه، ومثل هذا الانسان ايمانه خداج، يحتاج الى استغفار تماما من يطلق لحيته، ويطيل سبحته، وهو منتهك لمحارم الله، بايذاء الجيران، وحرمان الاخوات من الميراث، او التعامل بالربا، وانتقاص حقوق الآخرين، فهذا مطلي بالايمان ظاهرا، كما يدهن الجدار بالدهان، فاذا ما تعرض الجدار للمطر وغيره من العوامل، زال الدهان وظهرت حقيقة الجدار كما هي! والاسلام والايمان، لا بد ان يكونا متلازمين، حتى يسمى الانسان مؤمنا او كما نقول اليوم «متدينا او شيخا » فمن اطلق لحيته، واطال سبحته وسمح لبناته او زوجته ان تتبرج في حفلات الاعراس، وان يرقصن على انغام الموسيقى، ويستمعن اليها، كان ايمانه ناقصا! ومثله من يرتكب المحظورات وهو يدعي الايمان.
> المسألة السادسة: قوله تعالى: «قالت الاعراب آمنا »، الايمان في لغة العرب هو: التصديق، ويدل عليه قوله عزوجل : وما انت بمؤمن لنا » اي بمصدق لنا .»
> المسألة السابعة: والمؤمن الحق هو الذي يجاهد نفسه على فعل الطاعات، واجتناب المحرمات، ويحمل نفسه حملا على ذلك، وهذا يعني ان صفة الايمان حتى تتحقق في الانسان المسلم، يلزمها اجتهاد في الوقوف للنفس، لشهواتها، وشبهاتها وهواها، قال قتادة: يا ابن ادم، ان كنت لا تريد ان تأتي الخير الا عن نشاط، فان نفسك مائلة الى السأمة والفترة والملة، ولكنّ المؤمن هو المتحامل «الذي يتحمل الامر على مشقة »، والمؤمن هو المتقوي، والمؤمن هو المتشدد، وان المؤمنين هم العجاجون «الذين يرفعون اصواتهم بالدعاء والتلبية » الى الله في الليل والنهار .»
> المسألة الثامنة: ولا يكفي للايمان النطق باللسان، حتى يعتقده القلب، وتصدقه الجوارح، وقد ورد ان «الايمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالاركان » وهذه هي حقيقة الايمان.
> المسألة التاسعة: الايمان والكفر طرفان، واما النفاق فيلحق بالكفر، ولهذا نفى الله الايمان عن المنافقين، ومن ذلك قوله عزوجل فيهم «وما هم بمؤمنين »، وصور النفاق المتعارضة مع الايمان عديدة، منها ما كان من الاعراب المذكورين في الآية، ومنها ما يفعله بعض المسلمين اليوم، من اداء الصلوات، وصيام رمضان، والحج الى بيت الله الحرام، مع اعطائهم ولاءهم التام للكافرين الذين يحاربون الله ورسوله والمؤمنين، وفي مثل هؤلاء يقول الله عزوجل في سورة المائدة: ترى كثيرا من الناس يتولون الذين كفروا، لبئس ما قدمت لهم انفسهم ان سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون .»
> المسألة العاشرة: وقد قال علماء المالكية رحمة الله عليهم، عبارات نفيسة عن المؤمن والكافر، ذكرها القرطبي في تفسيره، اذكرها من غير تعليق وشرح، لفائدتها وجمالها وهي: «المؤمن ضربان: مؤمن يحبه الله ويواليه، ومؤمن لا يحبه الله ولا يواليه، بل يبغضه الله ويعاديه، فكل من علم الله انه يوافي بالايمان، فالله محب له، موال له، راض عنه، وكل من علم الله انه يوافي بالكفره فالله مبغض له، ساخط عليه، معاد له، لا لأجل إيمانه، ولكن لكفره وضلاله الذي يوافي به، والكافر ضربان: كافر يعاقب لا محالة، وكافر لا يعاقب فالذي يعاقب هو الذي يوافي بالكفر، فالله ساخط عليه، معاد له، والذي لا يعاقب هو الموافي بالايمان، فالله غير ساخط على هذا ولا مبغض له، بل محب له موالي، لا يكفر، لكن لإيمانه الموافي به، فلا يجوز ان يطلق القول وهو : بأن المؤمن يستحق الثواب، والكافر يستحق العقاب، بل يجب تقييده بالموافاة، ولأجل هذا قلنا: ان الله راض عن عمر في الوقت الذي كان يعبد الاصنام، ومريد لثوابه، ودخوله الجنة، لا لعبادته الصنم، لكن لايمانه الموافي به، وان الله تعالى ساخط على إبليس في حال عبادته، لكفره الموافي به.
> المسألة الحادية عشرة: فالعبرة اذن بالخواتيم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه البخاري «وانما الاعمال بالخواتيم »، واذا علمنا هذه المسألة، فحينئذ اوصي نفسي، واوصي كل مؤمن، ان يخلص اعماله واقواله لله تعالى، لأن من فسدت نيته، وشابها الرياء يخشى عليه من سوء الخاتمة، ومن خلصت نيته لله عزوجل وفقه الله لحسن الخاتمة.
نسأل الله الصدق في الاقوال والاعمال وحسن الخاتمة لنا ولجميع المسلمين.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى اله واصحابه اجمعين
0 التعليقات:
إرسال تعليق